كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ (108)}.
{أَمْ} في المعنى تكون ردّا على الاستفهام على جهتين إحداهما: أن تفرّق معنى: {أى} والأخرى أن يستفهم بها. فتكون على جهة النسق، والذي ينوى بها الابتداء إلّا أنه ابتداء متّصل بكلام. فلو ابتدأت كلاما ليس قبله كلام، ثم استفهمت لم يكن إلّا بالألف أو بهل ومن ذلك قول اللّه: {الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} فجاءت: {أَمْ} وليس قبلها استفهام، فهذا دليل على أنها استفهام مبتدأ على كلام قد سبقه. وأمّا قوله: {أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ} فإن شئت جعلته على مثل هذا، وإن شئت قلت: قبله استفهام فردّ عليه وهو قول اللّه: {ألَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}. وكذلك قوله: {ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ} فإن شئت جعلته استفهاما مبتدأ قد سبقه كلام، وإن شئت جعلته مردودا على قوله: {ما لَنا لا نَرى رِجالًا} وقد قرأ بعض القرّاء: {أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا} يستفهم في: {أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا} بقطع الألف لينسّق عليه: {أَمْ} لأن أكثر ما تجئ مع الألف وكلّ صواب. ومثله: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} ثم قال: {أَمْ أَنَا خَيْر مِنْ هذَا} والتفسير فيهما واحد. وربّما جعلت العرب أَمْ إذا سبقها استفهام لا تصلح أىّ فيه على جهة بل فيقولون: هل لك قبلنا حق أم أنت رجل معروف بالظّلم.
يريدون: بل أنت رجل معروف بالظّلم وقال الشاعر:
فو اللّه ما أدرى أسلمى تغوّلت ** أم النّوم أم كلّ إلىّ حبيب

معناه بل كلّ إلىّ حبيب.
وكذلك تفعل العرب في أو فيجعلونها نسقا مفرّقة لمعنى ما صلحت فيه أحد، وإحدى كقولك: اضرب أحدهما زيدا أو عمرا، فإذا وقعت في كلام لا يراد به أحد وإن صلحت جعلوها على جهة بل كقولك في الكلام:
اذهب إلى فلان أو دع ذلك فلا تبرح اليوم. فقد دلّك هذا على أن الرجل قد رجع عن أمره الأوّل وجعل أو في معنى بل ومنه قول اللّه:
{وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} وأنشدنى بعض العرب:
بدت مثل قرن الشّمس في رونق الضّحى ** وصورتها أو أنت في العين أملح

يريد: بل أنت.
وقوله: {فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)} و: {سَواءَ} في هذا الموضع قصد، وقد تكون: {سَواءَ} في مذهب غير كقولك للرجل: أتيت سواءك.
وقوله: {كُفَّارًا (109)}.
هاهنا انقطع الكلام، ثم قال: حَسَدًا كالمفسّر لم ينصب على أنه نعت للكفّار، إنما هو كقولك للرجل: هو يريد بك الشر حسدا وبغيا.
وقوله: {مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ (109)}.
من قبل أنفسهم لم يؤمروا به في كتبهم.
وقوله: {وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُودًا أَوْ نَصارى (111)}.
يريد يهوديّا، فحذف الياء الزائدة ورجع إلى الفعل من اليهوديّة. وهى في قراءة أبيّ وعبد اللّه: {إلّا من كان يهوديا أو نصرانيّا} وقد يكون أن تجعل اليهود جمعا واحده هائد ممدود، وهو مثل حائل ممدود- من النوق- وحول، وعائط وعوط وعيط وعوطط.
وقوله: {أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ (114)} هذه الرّوم كانوا غزوا بيت المقدس فقتلوا وحرّقوا وخرّبوا المسجد. وإنما أظهر اللّه عليهم المسلمين في زمن عمر رحمه الله فبنوه، ولم تكن الروم تدخله إلا مستخفين، لو علم بهم لقتلوا.
وقوله: {لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْي (114)}.
يقال: إن مدينتهم الأولى أظهر اللّه عليها المسلمين فقتلوا مقاتلهم، وسبوا الذراري والنساء، فذلك الخزي.
وقوله: {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذاب عَظِيم (114)} يقول فيما وعد اللّه المسلمين من فتح الروم، ولم يكن بعد.
وقوله: {كُلّ لَهُ قانِتُونَ (116)} يريد مطيعون، وهذه خاصّة لأهل الطاعة ليست بعامّة.
وقوله: {فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)} رفع ولا يكون نصبا، إنما هي مردودة على: {يَقُولُ} {فإنما يقول فيكون}.
وكذلك قوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ} رفع لا غير. وأمّا التي في النحل: {إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فإنها نصب، وكذلك التي في يس نصب لأنّها مردوة على فعل قد نصب بأن، وأكثر القرّاء على رفعهما. والرفع صواب، وذلك أن تجعل الكلام مكتفيا عند قوله: {إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ} فقد تمّ الكلام، ثم قال: فسيكون ما أراد اللّه.
وإنّه لأحبّ الوجهين إلىّ، وإن كان الكسائىّ لا يجيز الرفع فيهما ويذهب إلى النّسق.
وقوله: {تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ (118)}.
يقول: تشابهت قلوبهم في اتفاقهم على الكفر. فجعله اشتباها. ولا يجوز تشّابهت بالتثقيل لأنّه لا يستقيم دخول تاءين زائدتين في تفاعلت ولا في أشباهها.
وإنما يجوز الإدغام إذا قلت في الاستقبال: تتشابه عن قليل فتدغم التاء الثانية عند الشين.
وقوله: {وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)} قرأها ابن عباس وأبو جعفر محمد بن علىّ بن الحسين جزما، وقرأها بعض أهل المدينة جزما، وجاء التفسير بذلك، إلا أنّ التفسير على فتح التاء على النهي.
والقرّاء بعد على رفعها على الخبر: ولست تسئل، وفى قراءة أبىّ: {وما تسئل} وفى قراءة عبد اللّه: {ولن تسأل} وهما شاهدان للرفع.
وقوله: {وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْل (123)}.
يقال: فدية.
وقوله: {وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ (124)}.
يقال: أمره بخلال عشر من السّنّة خمس في الرأس، وخمس في الجسد فأما اللاتي في الرأس فالفرق، وقصّ الشّارب، والاستنشاق، والمضمضة، والسّواك.
وأما اللاتي في الجسد فالختان، وحلق العانة، وتقليم الأظافر، ونتف الرفغين يعنى الإبطين. قال الفرّاء: ويقال للواحد رفع والاستنجاء.
{فَأَتَمَّهُنَّ} عمل بهنّ فقال اللّه تبارك وتعالى: {إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمامًا} يهتدى بهداك ويستنّ بك، فقال: ربّ {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} على المسألة.
وقوله: {لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)}.
يقول: لا يكون للمسلمين إمام مشرك. وفى قراءة عبد اللّه: {لا ينال عهدى الظّالمون}. وقد فسّر هذا لأن ما نالك فقد نلته، كما تقول: نلت خيرك، ونالنى خيرك.
وقوله: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ (125)}.
يثوبون إليه- من المثابة والمثاب- أراد: من كل مكان. والمثابة في كلام العرب كالواحد مثل المقام والمقامة.
وقوله: {وَأَمْنًا (125)}.
يقال: إن من جنى جناية أو أصاب حدّا ثم عاذ بالحرم لم يقم عليه حدّه حتى يخرج من الحرم، ويؤمر بألّا يخالط ولا يبايع، وأن يضيّق عليه حتى يخرج ليقام عليه الحدّ، فذلك أمنه. ومن جنى من أهل الحرم جناية أو أصاب حدّا أقيم عليه في الحرم.
وقوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى (125)}.
وقد قرأت القرّاء بمعنى الجزم والتفسير مع أصحاب الجزم، ومن قرأ: {وَاتَّخِذُوا} ففتح الخاء كان خبرا يقول: جعلناه مثابة لهم واتخذوه مصلى، وكلّ صواب إن شاء اللّه.
وقوله: {أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ (125)}.
يريد: من الأصنام ألّا تعلّق فيه.
وقوله: {لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ (125)}.
يعنى أهله وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ يعنى أهل الإسلام.
وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ (126)}.
من قول اللّه تبارك وتعالى: {فَأُمَتِّعُهُ} على الخبر. وفى قراءة أبىّ: {ومن كفر فنمتّعه قليلا ثمّ نضطرّه إلى عذاب النار} فهذا وجه. وكان ابن عباس يجعلها متّصلة بمسئلة إبراهيم صلى اللّه عليه على معنى: ربّ: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} منصوبة موصولة. يريد ثم اضطرره فإذا تركت التضعيف نصبت، وجاز في هذا المذهب كسر الراء في لغة الذين يقولون مدّه. وقرأ يحيى بن وثّاب: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} بكسر الألف كما تقول: أنا اعلم ذاك.
وقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ (127)}.
يقال هي إساس البيت. واحدتها قاعدة، ومن النساء اللواتى قد قعدن عن المحيض قاعد بغيرها. ويقال لأمرأة الرجل قعيدته.
وقوله: {رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا (127)}.
يريد: يقولان ربنا. وهى في قراءة عبد اللّه: {ويقولان ربنا}.
وقوله: {وَأَرِنا مَناسِكَنا (128)}.
وفي قراءة عبد اللّه: {وأرناهم مناسكهم} ذهب إلى الذّرّيّة.: {وَأَرِنا} ضمّهم إلى نفسه، فصاروا كالمتكلّمين عن أنفسهم يدلّك على ذلك قوله: {وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا} رجع إلى الذّرّيّة خاصّة.
وقوله: {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ (130)}.
العرب توقع سفه على نفسه وهى معرفة. وكذلك قوله: {بَطِرَتْ مَعِيشَتَها} وهي من المعرفة كالنكرة، لأنه مفسّر، والمفسّر في أكثر الكلام نكرة كقولك:
ضقت به ذرعا، وقوله: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} فالفعل للذّرع لأنك تقول: ضاق ذرعى به، فلمّا جعلت الضيق مسندا إليك فقلت: ضقت جاء الذّرع مفسرا لأن الضيق فيه كما تقول: هو أوسعكم دارا. دخلت الدار لتدلّ على أن السعة فيها لا في الرّجل وكذلك قولهم: قد وجعت بطنك، ووثقت رأيك- أو- وفقت، قال أبو عبد اللّه: أكثر ظنّى وثقت بالثاء إنما الفعل للأمر، فلمّا أسند الفعل إلى الرجل صلح النصب فيما عاد بذكره على التفسير ولذلك لا يجوز تقديمه، فلا يقال: رأيه سفه زيد، كما لا يجوز دارا أنت أوسعهم لأنه وإن كان معرفة فإنه في تأويل نكرة، ويصيبه النصب في موضع نصب النكرة ولا يجاوزه.
وقوله: {وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ (132)}.
في مصاحف أهل المدينة: {وأوصى} وكلاهما صواب كثير في الكلام.
وقوله: {وَيَعْقُوبُ (132)} أي ويعقوب وصّى بهذا أيضا. وفى إحدى القراءتين قراءة عبد اللّه أو قراءة أبىّ: {أن يا بنىّ إن اللّه اصطفى لكم الدين} يوقع وصى على: {أن} يريد وصّاهم: {بأن} وليس في قراءتنا: {أن} وكلّ صواب. فمن ألقاها قال: الوصيّة قول، وكلّ كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول أن، وجاز إلقاء أن كما قال اللّه عز وجل في النساء: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} لأن الوصيّة كالقول وأنشدنى الكسائي:
إني سأبدي لك فيما أبدي ** لي شجنان شجن بنجد

وشجن لى ببلاد السند لأن الإبداء في المعنى بلسانه ومثله قول اللّه عزّ وجلّ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً} لأن العدة قول. فعلى هذا يبنى ما ورد من نحوه.
وقول النحويّين: إنما أراد: أن فألقيت ليس بشيء لأن هذا لو كان لجاز إلقاؤها مع ما يكون في معنى القول وغيره.
وإذا كان الموضع فيه ما يكون معناه معنى القول ثم ظهرت فيه أن فهى منصوبة الألف. وإذا لم يكن ذلك الحرف يرجع إلى معنى القول سقطت أن من الكلام.
فأمّا الذي يأتى بمعنى القول فتظهر فيه أن مفتوحة فقول اللّه تبارك وتعالى:
{إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحًا إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} جاءت أن مفتوحة لأن الرسالة قول.
وكذلك قوله: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا} والتخافت قول. وكذلك كلّ ما كان في القرآن. وهو كثير. منه قول اللّه: {وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ}.
ومثله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّن بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} الأذان قول، والدعوى قول في الأصل. وأمّا ما ليس فيه معنى القول فلم تدخله أن فقول اللّه: {وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا} فلمّا لم يكن في: {أَبْصَرْنا} كلام يدلّ على القول أضمرت القول فأسقطت أن لأن ما بعد القول حكاية لا تحدث معها أن. ومنه قول اللّه: {وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ}. معناه: يقولون أخرجوا. ومنه قول اللّه تبارك وتعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا}. معناه يقولان: {رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا} وهو كثير. فقس بهذا ما ورد عليك.
وقوله: {قالوا نعبد إلهك وإله ءابائك إبراهيم وإسماعيل وإسحق إلها واحدا ونحن له مسلمون}.
قرأت القرّاء {نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ} وبعضهم قرأ: {وإله أبيك} واحدا. وكأن الذي قال: أبيك ظنّ أن العمّ لا يجوز في الآباء فقال: {وإله أبيك إبراهيم} ثم عدّد بعد الأب العمّ. والعرب تجعل الأعمام كالآباء، وأهل الأمّ كالأخوال. وذلك كثير في كلامهم.
وقوله: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا (135)}.
أمر اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم. فإن نصبتها بنكون كان صوابا وإن نصبتها بفعل مضمر كان صوابا كقولك بل نتّبع: {مِلَّةَ إِبْراهِيمَ} وإنما أمر اللّه النبي محمدا صلى اللّه عليه وسلم فقال: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ}.
وقوله: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ (136)}.
يقول لا نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى وقوله: {صِبْغَةَ اللَّهِ (138)}.
نصب، مردودة على الملّة، وإنما قيل: {صِبْغَةَ اللَّهِ} لأن بعض النصارى كانوا إذا ولد المولود جعلوه في ماء لهم يجعلون ذلك تطهيرا له كالختانة. وكذلك هي في إحدى القراءتين. قل: {صِبْغَةَ اللَّهِ} وهى الختانة، اختتن إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم فقال: قل: {صِبْغَةَ اللَّهِ} يأمر بها محمدا صلى اللّه عليه وسلم فجرت الصبغة على الختانة لصبغهم الغلمان في الماء، ولو رفعت الصبغة والملّة كان صوابا كما تقول العرب: جدّك لا كدّك، وجدّك لا كدّك. فمن رفع أراد: هي ملّة إبراهيم، هي صبغة اللّه، هو جدّك. ومن نصب أضمر مثل الذي قلت لك من الفعل.
وقوله: {وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطًا (143)}.
يعني عدلا لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ يقال: إن كلّ نبىّ يأتى يوم القيامة فيقول: بلّغت، فتقول أمّته: لا، فيكذّبون الأنبياء، ثم يجاء بأمّة محمد صلى اللّه عليه وسلم فيصدّقون الأنبياء ونبيّهم، ثم يأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فيصدّق أمّته، فذلك قوله تبارك وتعالى: {لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} ومنه قول اللّه: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيدًا}.
وقوله: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ (143)}.
أسند الإيمان إلى الأحياء من المؤمنين، والمعنى فيمن مات من المسلمين قبل أن تحوّل القبلة. فقالوا للنبى صلى اللّه عليه وسلم: كيف بصلاة إخواننا الذين ماتوا على القبلة الأولى؟ فأنزل اللّه تبارك وتعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} يريد إيمانهم لأنهم داخلون معهم في الملّة، وهو كقولك للقوم: قد قتلناكم وهزمناكم، تريد: قتلنا منكم، فتواجههم بالقتل وهم أحياء.
وقوله: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ (144)}.
يريد: نحوه وتلقاءه، ومثله في الكلام: ولّ وجهك شطره، وتلقاءه، وتجاهه.
وقوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ (145)}.
أجيبت لئن بما يجاب به لو. ولو في المعنى ماضية، ولئن مستقبلة، ولكن الفعل ظهر فيهما بفعل فأجيبتا بجواب واحد، وشبّهت كلّ واحدة بصاحبتها. والجواب في الكلام في لئن بالمستقبل مثل قولك: لئن قمت لأقومنّ، ولئن أحسنت لتكرمنّ، ولئن أسأت لا يحسن إليك. وتجيب لو بالماضي فتقول: لو قمت لقمت، ولا تقول: لو قمت لأقومنّ. فهذا الذي عليه يعمل، فإذا أجيبت لو بجواب لئن فالذى قلت لك من لفظ فعليهما بالمضيّ، ألا ترى أنك تقول: لو قمت، ولئن قمت، ولا تكاد ترى تفعل تأتى بعدهما، وهى جائزة، فلذلك قال: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا} فأجاب: {لئن} بجواب: {لو} وأجاب: {لو} بجواب: {لئن} فقال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَة مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْر} الآية.
وقوله: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ (147)} المعنى أنهم لا يؤمنون بأن القبلة التي صرف إليها محمد صلى اللّه عليه وسلم قبلة إبراهيم صلى اللّه عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء، ثم استأنف: {الحقّ} فقال: يا محمد هو: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} إنها قبلة إبراهيم فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ: فلا تشكّنّ في ذلك. والممترى: الشاكّ.
وقوله: {لِكُلٍّ وِجْهَة (148)}.
يعنى قبلة وَمُوَلِّيها: مستقبلها، الفعل لكلّ، يريد: مولّ وجهه إليها.
والتولية في هذا الموضع إقبال، وفى: {يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ} {ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} انصراف. وهو كقولك في الكلام: انصرف إلىّ، أي أقبل إلىّ، وانصرف إلى أهلك أي اذهب إلى أهلك. وقد قرأ ابن عباس وغيره: {هو مولّاها} وكذلك قرأ أبو جعفر محمد بن علىّ، فجعل الفعل واقعا عليه. والمعنى واحد. واللّه أعلم.
وقوله: {أيْنَ ما تَكُونُوا (148)}.
إذا رأيت حروف الاستفهام قد وصلت بما، مثل قوله: أينما، ومتى ما، وأىّ ما، وحيث ما، وكيف ما، و: {أَيًّا ما تَدْعُوا} كانت جزاء ولم تكن استفهاما.
فإذا لم توصل بما كان الأغلب عليها الاستفهام، وجاز فيها الجزاء.
فإذا كانت جزاء جزمت الفعلين: الفعل الذي مع أينما وأخواتها، وجوابه كقولهَ: {أيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ} فإن أدخلت الفاء في الجواب رفعت الجواب فقلت في مثله من الكلام: أينما تكن فآتيك. كذلك قول اللّه تبارك وتعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ}.
فإذا كانت استفهاما رفعت الفعل الذي يلى أين وكيف، ثم تجزم الفعل الثاني ليكون جوابا للاستفهام، بمعنى الجزاء كما قال اللّه تبارك وتعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ} ثم أجاب الاستفهام بالجزم فقال تبارك وتعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}.
فإذا أدخلت في جواب الاستفهام فاء نصبت كما قال اللّه تبارك وتعالى: {لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} فنصب. فإذا جئت إلى العطوف التي تكون في الجزاء وقد أجبته بالفاء كان لك في العطف ثلاثة أوجه إن شئت رفعت العطف مثل قولك: إن تأتنى فإنى أهل ذاك، وتؤجر وتحمد، وهو وجه الكلام. وإن شئت جزمت، وتجعله كالمردود على موضع الفاء. والرفع على ما بعد الفاء. وقد قرأت القرّاء: {مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ}. رفع وجزم. وكذلك: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْر لَكُمْ وَيُكَفِّرُ} جزم ورفع. ولو نصبت على ما تنصب عليه عطوف الجزاء إذا استغنى لأصبت كما قال الشاعر:
فإن يهلك النعمان تعر مطيّة ** وتخبأ في جوف العياب قطوعها

وإن جزمت عطفا بعد ما نصبت تردّه على الأوّل، كان صوابا كما قال بعد هذا البيت:
وتنحط حصان آخر اللّيل نحطة ** تقصّم منها أو تكاد ضلوعها

وهو كثير في الشعر والكلام. وأكثر ما يكون النصب في العطوف إذا لم تكن في جواب الجزاء الفاء، فإذا كانت الفاء فهو الرفع والجزم.
وإذا أجبت الاستفهام بالفاء فنصبت فانصب العطوف، وإن جزمتها فصواب. من ذلك قوله في المنافقين: {لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ} رددت: {وَأَكُنْ} على موضع الفاء لأنها في محلّ جزم إذ كان الفعل إذا وقع موقعها بغير الفاء جزم. والنصب على أن تردّه على ما بعدها، فتقول:
{وأكون} وهي في قراءة عبد اللّه بن مسعود: {وأكون} بالواو، وقد قرأ بها بعض القرّاء. قال: وأرى ذلك صوابا لأن الواو ربما حذفت من الكتاب وهي تراد لكثرة ما تنقص وتزاد في الكلام ألا ترى أنهم يكتبون: {الرحمن} وسليمن بطرح الألف والقراءة بإثباتها فلهذا جازت. وقد أسقطت الواو من قوله: {سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ} ومن قوله: {وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ} الآية، والقراءة على نيّة إثبات الواو. وأسقطوا من الأيكة ألفين فكتبوها في موضع ليكة، وهى في موضع آخر الأيكة، والقرّاء على التمام، فهذا شاهد على جواز: {وأكون من الصّالحين}.
وقال بعض الشعراء:
فأبلونى بليّتكم لعلّى ** أصلكم وأستدرج نويّا

فجزم وأستدرج، فإن شئت رددته إلى موضع الفاء المضمرة في لعلّى، وإن شئت جعلته في موضع رفع فسكّنت الجيم لكثرة توالى الحركات. وقد قرأ بعض القراء: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} بالجزم وهم ينوون الرفع، وقرءوا: {أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ} والرفع أحبّ إلىّ من الجزم.
وقوله: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ (150)}.
يقول القائل: كيف استثنى الذين ظلموا في هذا الموضع؟
ولعلهم توهّموا أن ما بعد إلّا يخالف ما قبلها فإن كان ما قبل إلّا فاعلا كان الذي بعدها خارجا من الفعل الذي ذكر، وإن كان قد نفى عما قبلها الفعل ثبت لما بعد إلا كما تقول: ذهب الناس إلّا زيدا، فزيد خارج من الذهاب، ولم يذهب الناس إلا زيد، فزيد ذاهب، والذهاب مثبت لزيد.
فقوله: {إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا} معناه: إلا الذين ظلموا منهم، فلا حجّة لهم: {فَلا تَخْشَوْهُمْ} وهو كما تقول في الكلام: الناس كلّهم لك حامدون إلا الظالم لك المعتدى عليك، فإن ذلك لا يعتدّ بعداوته ولا بتركه الحمد لموضع العداوة.
وكذلك الظالم لا حجّة له. وقد سمّى ظالما.
وقد قال بعض النحويين: إلا في هذا الموضع بمنزلة الواو كأنه قال: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّة} ولا للذين ظلموا. فهذا صواب في التفسير، خطأ في العربية إنما تكون إلا بمنزلة الواو إذا عطفتها على استثناء قبلها، فهنالك تصير بمنزلة الواو كقولك: لى على فلان ألف إلا عشرة إلا مائة، تريد: إلّا الثانية أن ترجع على الألف، كأنك أغفلت المائة فاستدركتها فقلت: اللهمّ إلا مائة. فالمعنى له علىّ ألف ومائة، وأن تقول: ذهب الناس إلا أخاك، اللهمّ إلا أباك، فتستثنى الثاني، تريد: إلا أباك وإلا أخاك كما قال الشاعر:
ما بالمدينة دار غير واحدة ** دار الخليفة إلا دار مروانا

كأنه أراد: ما بالمدينة دار إلا دار الخليفة ودار مروان.
وقوله: {لِكُلٍّ وِجْهَة (148)}.
العرب تقول: هذا أمر ليس له وجهة، وليس له جهة، وليس له وجه وسمعتهم يقولون: وجّه الحجر، جهة ماله، ووجهة ماله، ووجه ماله. ويقولون:
ضعه غير هذه الوضعة، والضّعة، والضعة. ومعناه: وجّه الحجر فله جهة وهو مثل، أصله في البناء يقولون: إذا رأيت الحجر في البناء لم يقع موقعه فأدره فإنك ستقع على جهته. ولو نصبوا على قوله: {وجّهه} جهته لكان صوابا.
وقوله: {وَاخْشَوْنِي (150)}.
أثبتت فيها الياء ولم تثبت في غيرها، وكلّ ذلك صواب، وإنما استجازوا حذف الياء لأن كسرة النون تدلّ عليها، وليست تهيّب العرب حذف الياء من آخر الكلام إذا كان ما قبلها مكسورا، من ذلك: {رَبِّي أَكْرَمَنِ} و: {أَهانَنِ} في سورة الفجر. وقوله: {أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ} ومن غير النون: {الْمُنادِ} و: {الدَّاعِ} وهو كثير، يكتفى من الياء بكسرة ما قبلها، ومن الواو بضمّة ما قبلها مثل قوله: {سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ}-: {وَيَدْعُ الْإِنْسانُ} وما أشبهه، وقد تسقط العرب الواو وهى واو جماع، اكتفى بالضمّة قبلها فقالوا في ضربوا: قد ضرب، وفى قالوا: قد قال ذلك، وهى في هوازن وعليا قيس أنشدنى بعضهم:
إذا ما شاء ضرّوا من أرادوا ** ولا يألو لهم أحد ضرارا

وأنشدنى الكسائي:
متى تقول خلت من أهلها الدار ** كأنهم بجناحي طائر طاروا

وأنشدنى بعضهم:
فلو أن الأطبّاء كان عندى ** وكان مع الأطباء الأساة

وتفعل ذلك في ياء التأنيث كقول عنترة:
إن العدوّ لهم إليك وسيلة ** إن يأخذوك تكحّلى وتخضّب

يحذفون ياء التأنيث وهي دليل على الأنثى اكتفاء بالكسرة.
وقوله: {كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ (150)}.
جواب لقوله: {فاذكرونى أذكركم} كما أرسلنا، فهذا جواب مقدّم ومؤخّر.
وفيها وجه آخر: تجعلها من صلة ما قبلها لقوله: {أَذْكُرْكُمْ} ألا ترى أنه قد جعل لقوله: {فَاذْكُرُونِي} جوابا مجزوما، فكان في ذلك دليل على أن الكاف التي في كما لما قبلها لأنك تقول في الكلام: كما أحسنت فأحسن. ولا تحتاج إلى أن تشترط لأحسن لأن الكاف شرط، معناه افعل كما فعلت. وهو في العربية أنفذ من الوجه الأوّل مما جاء به التفسير وهو صواب بمنزلة جزاء يكون له جوابان مثل قولك: إذا أتاك فلان فأته ترضه. فقد صارت فأته وترضه جوابين.
وقوله: {وَاشْكُرُوا لِي (152)}.
العرب لا تكاد تقول: شكرتك، إنما تقول: شكرت لك، ونصحت لك.
ولا يقولون: نصحتك، وربما قيلتا قال بعض الشعراء:
هم جمعوا بؤسى ونعمى عليكم ** فهلّا شكرت القوم إذ لم تقاتل

وقال النابغة:
نصحت بنى عوف فلم يتقبّلوا ** رسولى ولم تنجح لديهم وسائلى